مجتمع

كم مرة يموت الإنسان ؟

يظل الموت لغزًا عصيًّا على الفهم، ينحصر بين الخوف من العذاب والخوف من العدم كفكرة مهينة تجعل كل هذا الكدح الإنساني ينتهي إلى لا شيء. فمن أي موت يجب أن نخاف؟

future صورة تعبيرية: من «رواية الواقعة الخاصة بأموات أهله»

يظلّ الموت لغزًا عصيًّا على الفهم، أكثر الأسئلة بداهةً وأشدّها رعبًا في آنٍ واحد. يخشاه المؤمن واللاإيماني على السواء، وإن اختلفت علل الخوف وتبدّلت مسوّغاته.

فالمؤمن، رغم يقينه، يرتعد مما بعد الموت: حسابًا، وعذابًا، ومصيرًا لا يملك تجاهه إلا الرجاء. أما غير المؤمن، فخوفه أشدّ فداحة؛ إذ لا يخشى عذابًا بقدر ما يخشى العدم ذاته، تلك الفكرة المهينة التي تجعل كل هذا الكدح الإنساني، وكل هذا التعلّق، ينتهي إلى لا شيء. أن يتحوّل الإنسان، بعد كل ما عاشه وكابده وأحبه، إلى عدمٍ خالص، لهو تصوّر يثقل الروح ويُربك العقل.

ولكن، ورغم أن من المسلم به أننا جميعًا نخشى الموت، يبقى تساؤل عن أي موت نتحدث، ومن أي موت نخاف؟ ليس المقصود بالموت هنا خروج الروح وفناء الجسد، فذلك أمر معروف. ولكن هناك محطات أخرى من الموت يمرّ بها الإنسان في حياته، ولكنه لا يخافها نفس خوفه من الموت المتعارف عليه، لا لشيء إلا لأننا لا ندركها جيدًا.

الموتة الأولى!

إذا أردنا بحث معنى الموت سنجد أنه يرادف الغياب. ولذلك فالموت الأول للإنسان على الأرض هو الغياب = الفراق.

كلٌّ منا له شخص مقرّب، سواء كان صديقًا أو حبيبًا أو أمًّا أو أيًّا يكن صفته، إلا أنه يكون قريبًا جدًا منا لدرجة تجعلنا نضمّه إلى كينونتنا عند تعريف ذواتنا. شخص يفهمنا دون أن نتجادل، شخص نتبادل معه الاهتمامات، شخص نحب وجوده ونطمئن بجانبه، شخص لا نشعر بالوقت معه، شخص يمكننا أن نخسر العالم من أجله لأنه وحده يكفينا عن كل العالم.

ولأن الموت شيء حتمي كما قدّمنا، وقدر لا فرار منه، قد يسيء حظنا ويأتي لمن نحب أولًا. أول إدراكات الموت نشعر بها هنا في مثل هذه اللحظات، عند غياب الشخص المقرّب، الشخص الذي لا يمكن الاستغناء عنه، يسرقه منا الموت فجأة.

ندرك الآن شعور الموت، ففي ظل غياب الأحبة تتملّكنا مشاعر الموت. نفقد معه جزءًا كبيرًا منا، لأن جزءًا كبيرًا منا سوف يصبح ماضيًا لا يمكن إحضاره أو إعادته. موت المقرّبين هو موت لنا، لأننا نفقد معهم مشاعرنا وأحاسيس كثيرة، ونفقد الثقة في الحياة، فهناك جزء منا قد سقط أثناء السير.

المحطة الثانية من الموت!

إذا بحثنا في معاني الحياة سيكون من مرادفاتها المرح، والحركة، والإنجاز، والتقدم، والتغيّر… ولأن السكون يحمل بعض معاني الموت، فموت الأمل هو بمثابة مرحلة من مراحل الموت التي نمرّ بها. يُقال دائمًا من الفلاسفة والحكماء إن من يجد شيئًا يعيش من أجله يمكنه تحمّل الألم. لذلك دائمًا هناك تلازم بين الأمل والألم، فبالأول يمكننا تجاوز الثاني. ومن المفارقة أن غياب الأمل قد يتبعه غياب الألم، فالميت — وكلامنا هنا عن الحي بلا أمل — لا سبيل للألم أن يوجعه.

الأمل بمثابة وقود الإنسان في الحياة، فدافع الحركة دائمًا هو الأمل: الأمل في غد أفضل، الأمل في وظيفة أفضل، الأمل في زوجة صالحة، الأمل في ابن صالح، الأمل في حياة سعيدة.

دائمًا ما يكون تصورنا للمستقبل وما هو قادم أنه أفضل، وإن لم يكن لدينا مبرر واقعي لهذا التفاؤل، إلا أن الأمل كفيل بأن يُقنع، ويُحرّك، ويُغيّر. لذلك لا مناص من اعتبار الإنسان الذي لا أمل له يسعى وراءه بأنه ميت.

الموت ثالث مرة!

من معاني الإنسان كونه يملك من المشاعر والأحاسيس ما يجعله يفهم مشاعر الآخرين ومراعاتها. لدينا تعبير دارج يصف الإنسان القاسي الذي لا قيود تحكمه: «ضميره ميت».

موت الضمير يصف دائمًا الإنسان الذي لا يراعي الله في الناس من حوله، الإنسان الذي يدور حول مصلحته الشخصية ولا يكترث بالآخرين ومشاعرهم. الإنسان الذي مصلحته هي بوصلته، والذي يبرر لنفسه الأخطاء ما دامت الأمور في صالحه.

الإنسان كائن أخلاقي قبل أن يكون كائنًا بيولوجيًا. ضميره هو بوصلته، قلبه المعنوي، وحده الذي يميّز بين الحياة باعتبارها وجودًا، والحياة باعتبارها قيمة. ضمير الإنسان بمثابة القلب للجسم؛ إذا مات القلب يعني صراحة موت الإنسان. وكذلك الضمير، فهو بوصلة الإنسان، وهو قلب الوجود، فإذا فسد أو مات الضمير يتبعه فساد وموت الإنسان.

الموت قبل الأخير!

الإنسان هو مجموع ماضيه. ذكرياته، تجاربه، علاقاته، هويته… كلها تنسج معنى وجوده. فجزء من الإنسان ماضيه، وإذا غاب عن شخص ماضيه يفقد هويته وسر وجوده وغايته!

هذا بالضبط ما يحدث مع الإنسان في حضرة النسيان، ولكن حديثنا هنا عن أشرس أنواع الخيانة، وهي خيانة الذاكرة، وما يُسمّى طبيًا بالزهايمر. لك أن تتخيل أن يغيب عنك الماضي، والأحبة، والمقرّبون، وسبب الوجود، والهوية، وكل ذلك…

هذا النوع من الموت هو من أقسى مراحل الموت على الإنسان نفسه، حيث إنه يضم في ذاته كل مراحل الموت السابقة، إذ سيفقد الإنسان معه بالضرورة أحباءه، ولو لأنهم ما زالوا على قيد الحياة، إلا أنهم لم يعودوا يمثلون له أي أهمية.

وكذلك يفقد الإنسان نفسه وهويته. وأيضًا من غير المعقول أن يكون لشخص غير قادر على امتلاك ذاكرته أن يملك أملًا!

الموت الأخير = موت الجسد!

بعد كل تلك المحطات التي يمرّ بها الإنسان من الموت، يظل الإنسان يخاف موت الجسد، رغم مروره بالمحطات السابقة، ورغم أنه في الحقيقة قد يكون ميتًا من الأساس، ولكنه لا يشعر.

وهذا أخطر ما في الأمر؛ فهذه المراحل من الموت قد لا يشعر بها الإنسان، وفي الغالب ما يحدث ذلك.
يظل موت الجسد، رغم كل ما يحمله من مهاول، موتًا مُدرَكًا يمكن التفطن له والاستعداد قبل مجيئه، ويظل أيضًا لحظة تمرّ بالإنسان فجأة وينتهي كل شيء بعدها. أما المراحل السابق ذكرها فهي مستمرة، تتلبّس الإنسان، قد لا تتركه، وقد لا يدركها أبدًا.

فمن أي موت يجب أن نخاف؟
وأخبرني بالله عليك، كم مرة مر عليك الموت؟

# معرفة

شوقي ضيف يكتب: ضحى الإسلام لأحمد أمين
لماذا يسمح الله عز وجل بوجود الشر في عالمنا؟ رد فلاسفة الإسلام على معضلة الشر
مات كما مات أبناء أبي الصمت — قصة قصيرة

مجتمع